| 0 التعليقات ]

النقطة السوداء....
للكاتب : د. أحمد بن صالح الطويان


من الناس ما لا يرى إلا بعين سوداء إذا رأى حسنة سترها وإذا سمع بسيئة نشرها كالذباب لا يقع إلا على الجرح، لا يرى إلا الأذى، ويبصر حتى القذى، يكشف المستور، ولا يرى إلا السوء، ولا يقول إلا زوراً ولا يغشى إلا فجوراً.

من الناس من فتن بتتبع الزلات، وكشف العورات، وتعقب الهفوات، ونشر السقطات، وتلمس العثرات، لا يستريح إلا إذا نشر المعايب، ولا يتلذذ إلا بإشاعة الأخطاء والمثالب، يخفي الحسنات ويظهر الهنات يوسع الخرق ويفضح الخلق، مغرم بسرد الفضائح وإذاعة القبائح واجتناب المدائح، همه إبداء العورات ونشر السلبيات.

قد امتلأ قلبه غيظاً وحقداً وحسداً وبغضاً، لا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة، يفرح بالهنات وتسيئه الحسنات {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [سورة آل عمران: 120].

إن العين السوداء التي لا ترى إلا السواد، ولا تبصر إلا الخطأ، ولا تذكر إلا السوء والشر شعارها السب والثلب وسواد القلب، لا تعرف مدحاً ولا ثناءً ولا شكراً ولا عرفاناً إلا لأنفسها.

تلك عين كاذبة خاطئة، عين عوراء لا تبصر إلا ما تريد وتطمس ما لا تريد.

وإن العدل كل العدل والإنصاف كل الإنصاف ستر المعايب ونشر الفضائل والمناقب وذكر الحسنات والطيبات من الأقوال والأفعال والصفح عن الزلات والنقائص.

فالجميل لا يرى إلا جمال الخلق والفعل والقول يلتمس المعاذير ويتجنب التنقص والتهويل.

قال أبو قلابه: "إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له عذراً، فإن لم تجد له عذراً فقل لعله له عذراً لا أعلمه".

أين هؤلاء الذين يتلمسون العيب للبراء، ويلصقون التهم بالأبرياء، يصيدون لهم العثرات، ويوجدون لهم الزلات.

فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» [قال الألباني حسن صحيح].

قال الحسن: "إذا رأيت الرجل يشتغل بعيوب غيره ويترك عيوب نفسه فاعلم أنه قد مُكر به".

ولقد ضرب لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم المثل العظيم بكلمة الحق والعدل والإنصاف حتى قال صلى الله عليه وسلم في الشيطان: «صدقك وهو كذوب» [رواه البخاري].

ولما ذكر عبدالله بن عمر قال: «نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل» [رواه البخاري]، فذكر الفضيلة ونبه إلى ما يزيد في الكمال .

وإذا أراد أن ينبه على خطأ قال صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا" ولما سب رجل رجلاً كان يجلد بالخمر قال: "لا تسبوه فإنه يحب الله ورسوله"..

فالفضائل تستر المعايب والحسنات يذهبن السيئات .

قال صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة إذا كره منها خلقاً رضي بآخر» [رواه مسلم].

فمن رأى سوءاً فلينظر إلى الخير والحسن، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته انغمرت سيئاته في بحار حسناته ومناقبه وفضائله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث» [صححه الألباني].

من الذي ما ساء قط *** ومن له الحسنى فقط

من ذا الذي ترضى سجاياه كلها *** كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه

فما من الناس إلا وله هنة تغمر في جنب فضله وتجتنب.

فالكمال عزيز وإنما يمدح المسلم بكثرة ماله من الفضائل فلا تدفن المحاسن لهفوة أو هنة، والله تعالى يقول: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [سورة البقرة: 286]، قال الله قد فعلت.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» [صححه الألباني].

وقال كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون فهل يُعير أحد بذنب وتنسى محامده ومحاسنه فالله يعفو ويغفر، والعبد يكشف ويفضح.

ولهذا المرض العضال والنظر السوداء أسباباً منها:

1- الهوى وتحكمه في النفوس {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى} [سورة القصص: 50].

2- الحقد والحسد والبغي والغيرة قال صلى الله عليه وسلم: «دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» [رواه الترمذي وحسنه الألباني]

3- تلبيس إبليس فيلبس الشيطان عليهم أن ذلك بياناً للحق، حتى يجعل أحدهم يفري في أعراض المسلمين ويفتري .. قال ابن القيم رحمه الله: "ومن العجب إن الإنسان يهون عليه التحفظ من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك.

ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول".

4- سوء الظن بالمسلمين وحمل أفعالهم وأقوالهم محامل السوء والشكوك فيدفعهم إلى الترصد والتربص والفرح العظيم بوجود الأخطاء.

فالتصيد للأخطاء والفرح بها وإذاعتها وكتمان المحاسن والفضائل داء خبيث متى ما تمكن من النفوس أطفأ ما فيها من نور الإيمان وصيّر القلوب خراباً تمتلئ بالأهواء والشهوات.

والله أمر بالقسط وإقامة العدل {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [سورة الأنعام: 152]، فلا البغض يدفع للظلم وترك العدل {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [سورة المائدة: 8]، فيعيش المسلم في علاقاته مع الآخرين وفي نظرته لهم على العدل.

فمن رأى ما يكره فليفتش عن الجوانب الإيجابية والصفات الحسنة في كل من يتعامل معه مع الزوجة والأولاد والأقارب والجيران وعامة الناس وأئمتهم، فمن دعته نفسه إلى رؤية الأخطاء فليذكرها بالحسنات والمحامد والمناقب، وليبحث عن الأعذار فـ«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» [رواه الترمذي وقال الألباني حسن صحيح].

وأمسك عن الشر فإنها صدقة تتصدق بها على نفسك، وتذكر أن من تتبع عورات الناس تتبع الله عورته، وتذكر المفلس يوم القيامة من تفنى حسناته وتطرح عليه خطايا الآخرين.

واضمن ما بين لحييك وبين فخذيك نضمن لك الجنة فالسلامة لا يعد لها شيء .

والموفق من عرف الحق فاتبعه والباطل فاجتنبه، وليكن المسلم بلسماً شافياً وقلباً خالصاً ناصحاً مشفقاً يدعو لمن أساء بالهداية والتوفيق والعصمة، ويُسدي له بالغيب دعوة مستجابة وينصح ولا يفضح ويرشد ولا يغمز، ويبدأ بنصيحته بما للإنسان من الحسنات والفضائل والمكرمات ويعترف له بالفضل والإكرام وينبه بأسلوب رفيق شفيق رقيق.

0 التعليقات

إرسال تعليق