| 0 التعليقات ]

ثقافة الفساد


تتعرض مصر – و غيرها من البلاد الاسلامية – لحملة ضخمة لتغيير هويتها و انتمائها و اشاعة الفساد فى جوانب الحياة المختلفة فيها.



و لقد انتبه كثير من المثقفين و المفكرين و الوطنيين الغيورين على بلادهم خطر الفساد السياسى و تناولوه بالنقد و التفنيد ، و صار عامة الناس أيضا منتبهين إلى درجة ما إلى هذا النوع من الفساد ، أما أشكال الفساد الأخرى فنادرا ما يتعرض لها أحد و لذلك فهى آخذة فى التغلغل فى مجتمعاتنا بصورة سرطانية. الفساد الاجتماعى و الأخلاقى و السلوكى ينتشر بصورة مروعة و يشكل فى أجزائه العديدة ثقافة جديدة يمكن أن نطلق عليها ثقافة الفساد.




هذا المقال الغرض منه الإشارة إلى بعض جوانب هذه الثقافة المدمرة و التى يقع فيها الكثير منا بحسن نية و دون الانتباه إلى ما تمثله ، و أرجو أن يشارك أكبر عدد فى كشف هذه الجوانب المختلفة و تفنيدها و فضحها و الدعوة إلى نبذها و التخلى عنها ، سواء هنا فى هذا الموضوع أو فى موضوعات مستقلة.



سأذكر هنا بعض الأمثلة و بعض الجوانب و لكنها بالتأكيد ليست كل ما تتشكل به ثقافة الفساد.





أولا : نبذ اللغة العربية و استخدام الانجليزية



نظرة سريعة على أسماء المحلات و الشركات و المؤسسات يعكس هذا الشعور المريض بالنقص إذ تجد أكثر الأسماء الجديدة باللغة الانجليزية ، لماذا ؟؟ ... عقد نقص لا غير.



كنت فى زيارة لمحافظة فى الوجه البحرى و فى قرية صغيرة رأيت دكانا عليه يافطة باسمه ( نيو أوريجينال ) ، فهذه الظاهرة لا تقتصر على المدن فقط ... فى الأسواق التجارية يصل إلى سمعك بعض عبارات الحوار بين الشباب و فى وسطها جمل كاملة بالانجليزية.




رأيت بعض الأطفال ينادون محفظات القرآن فى مسجد " يا مس " .. محفظة القرآن تلقب " مس ". ؟


شباب كثير يبدا تحيته لغيره بـ " هاى " .



سألت مذيعا فى قناة دريم التليفزيونية : من وراء هذه التسمية ؟ لماذا لا تسمونها قناة حلم أو قناة الحلم ؟ ما فائدة هذه الأسماء ؟ إلا احتقار و نبذ لغتنا الجميلة ..



اللغة جزء لا يتجزأ من هويتنا و شخصيتنا ، كيف نتخلى عنها تدريجيا بهذه الطريقة ؟ .. لماذا هذا التكالب على دورات اللغة الانجليزية و المتقدمون معظمهم يعجز أن يكتب سطرا واحدا باللغة العربية دون أخطاء املائية ؟



المذيعون و المذيعات فى أجهزة الاعلام و حتى فى النشرات الاخبارية غير قادرين على نطق الجمل بشكل صحيح و هم يرون نظراءهم فى المحطات الأجنبية ( مثل البى بى سى ) فى غاية الدقة فى الالتزام بقواعد اللغة العربية حتى فى البرامج الرياضية.



مدارس اللغات هى المفضلة الآن لدى الجميع حتى فى الأحياء الشعبية ، و التربويون لا ينصحون بها عموما و لكن بريق اللغة الأجنبية أصبح لا يقاوم. رأيت مرة طبيب تخدير حكى لى أنه ينتقل طول اليوم بين المستشفيات الصغيرة و المستوصفات فى العمليات الجراحية ليتمكن من تغطية احتياجات بيته الصغير ، سألته عن هذه الاحتياجات التى ترهقه بهذا الشكل فقال ان ابنته فى الحضانة فى مدرسة لغات و أن المصروفات السنوية أكثر من ستة آلاف جنيه ، لما رأى استنكارى برر تصرفه و قال إن سماعه لابنته و هى تنطق الكلمات الانجليزية بالدنيا كلها.




ثانيا : الاسراف و السفه فى الانفاق



برغم الشكاوى التى لا تنقطع عن غلاء الأسعار و الركود الاقتصادى فإن ثقافة مريضة تروج الآن للاسراف و السفه فى الانفاق.



رأيت كثيرين فى أوروبا و أمريكا من المهنيين كالأطباء و المهندسين لا يملكون خط هاتف محمول ، و لا يحتاجونه و بعضهم عنده جهاز نداء ( بيجر ) للطوارئ فقط. قارن هذا بالسفه فى الانفاق على أجهزة المحمول و مكالماتها و رسائلها السخيفة السمجة.



منذ أيام أخبرنى واحد ممن يغير جهاز الهاتف المحمول بشكل مستمر أن جهازه الجديد بسبعة آلاف جنيه ، سألته عن المزايا الخرافية التى تجعله يشترى جهازا بهذا السعر ، فقال أهم ميزة أنك لن تراه إلا فى أيدى قلة من الناس يعدون على أصابع اليد !.



بعض الشباب الآن يشترون أحذية رياضية بعدة مئات من الجنيهات و السبب أنها أصلية. و لو سألتهم عن فائدة كونها أصلية هل هى المتانة و طول عمرها ، لقالوا : ليس المهم المتانة و لكن الاسم الأصلى عليها أهم. عرفت أنه فى بعض المدارس يفحص الأولاد اللافتة الداخلية على الملابس لبعضهم البعض ليتأكدوا من أن الملابس أصلية.




يتأخر زواج كثير من الشباب الآن حتى يكونوا جاهزين ، و بعد انتظار سنوات ترى سفها و اسرافا فى أثاث البيت ، مبالغ طائلة تنفق على أشياء ستركن و لن تستعمل إلا نادرا و ربما لن تستعمل مطلقا. حتى تصميم الشقق يراعى هذا السفه ، فصالات الاستقبال طويلة عريضة للمنظرة و غرف النوم و المعيشة التى ستستعمل ضيقة و مختنقة.



شاب فى مقتبل عمره فتح مكتبا صغيرا أنفق كل ما يملك على " ديكورات " المكتب و لم يستطع بعدها أن يشترى المتطلبات الأساسية لعمله ، فأغلقه بعد شهر واحد.



( و لا تسرفوا ، إنه لا يحب المسرفين )



يا كل مسرف ، ألا تخشى أن تقع تحت بغض الله و سخطه ؟؟





ثالثا : التقليد الأعمى



كل مقلد ضعيف الشخصية فى الغالب.



زرت أستاذا جامعيا منذ أيام فى بيته و بموعد سابق ، فاستقبلنا فى بيته و هو يرتدى سروالا قصيرا " شورت " ، قصيرا جدا و ألوانه فاقعة ، الرجل فوق الستين من عمره ، استحييت و الله أن أكرر إليه النظر أثناء حديثى معه.



التقليد فى الأزياء أمر قديم لكن زاد الآن إلى حد العقد النفسية .



التقليد يمتد إلى سائر جوانب الحياة ، من المحمول للملابس و الأثاث و من مدارس الأولاد إلى سائر المقتنيات.





رابعا : المزاج الفنى المنحط.



تقضى ثقافة الفساد على الأذواق العامة و الخاصة.



تأمل فى اعلانات الأفلام فى الشوارع ، ستتصور بعدها أن الشعب أصبح حثالة من الفاسدين المنحلين الضائعين و أن البلاد لا قيم فيها و لا أخلاق. مع أن بلادنا مملوءة خير و بركة.



الأغانى التى تنطلق من بعض السيارات ، تعجب كيف يطيق من بداخل السيارة هذا القدر من الازعاج و الانحطاط فى المعانى و الأداء.



أنظر إلى أى شارع ، و تأمل التشكيلة العجيبة للمبانى ، سمك لبن تمر هندى.



زرت مؤخرا د. على جمعة المفتى فى مكتبه ، المكتب تشكيلة عجيبة ، خشب بزخارف اسلامية و مكاتب بتصميمات حديثة و أبواب تقليدية و أخرى لا معنى لها .. سمك لبن تمر هندى أيضا.




تصوروا أنه ليس لنا زى خاص يميزنا كمصريين ؟ و لا فنون خاصة تميزنا كمصريين ( إلا ما يروجه البعض عن الرقص الشرقى المهين ) ؟



هل تعرفون شاعر مصر الأول ؟ ... هل تعرفون أديب مصر الأول ؟ ، ربما لا توجد هذه المرتبة أساسا لأن الأمر لا يهم معظم الناس.



الأذواق العامة لا أقول تخدش الحياء بل تقتله قتلا. كم من الشتائم تسمعها فى الطريق. حتى دعابات الشباب لا تخلو من سب الأبوين ، هتافات مشجعى الكرة و تعليقاتهم مملوءة بالبذاءات و قلة الأدب. عبارات الأدب العام مثل " من فضلك " و " آسف " و " جزاك الله خيرا " ... أصبحت غريبة مهجورة.



للأسف الشديد هناك موجة من فساد الذوق العام و لقد رأيت بعض خريجى الجامعات يبذل قصارى جهده فى تقليد الضائعين و أرباب المخدرات فى كلامهم و تعبيراتهم بشكل مخزى.




خامسا : السطحية و عدم التخصص و الاحتراف.



تنتشر الآن ثقافة الفساد فى المهن و الحرف المختلفة ، و مهارة كثير من العمال تعنى " الفهلوة " و خداع الزبون. كان الحرفيون إلى وقت قريب يرفضون أن يسلموا شغلهم و به عيوب حتى لو وافق العميل ، و يرون هذا طعنا فى سمعتهم و شرفهم المهنى.



السيرة الذاتية لكثير من الشباب الآن تحتوى غالبا على عشرة وظائف فى السنة الواحدة ، يقفز الشاب من مكان لآخر بلا خبرة و لا حتى رغبة فى اكتساب الخبرة ، و لا يعنى الشاب فى شيئ أن يكون صاحب مهنة و محترفا فى تخصص من التخصصات.



إننى أتفهم المآسى التى يسببها فشل النظام التعليمى ، و لكن لم تعد هناك حتى الرغبة لدى الطلاب فى أن يجيدوا شيئا أو يتخصصوا فى شيئ.



لاحظت أن الشباب المقبلين على الزواج لا يكادوا يعرفون شيئا عن الحياة الجديدة التى يقفون على أبوابها. الآباء و الأمهات لا يفكرون فى الغالب أن يجلسوا مع أولادهم و بناتهم يعلموهم بعض جوانب الحياة الزوجية الجديدة عليهم. فكرنا فى المنطقة التى نعيش فيها أن نفتح هذا الباب للشباب ، أن نجلس مع كل شاب قبيل زواجه نتكلم معه بالتفصيل عما ينبغى أن يفعله مع عروسه و علاقته بأهل زوجته و علاقة الأسرتين معا .. إلخ. الحمد لله وجدنا تجاوبا كبيرا ، و لكن فى بعض الأحيان نلمس أن الشباب يريدون كل هذه الخبرة فى كلمتين ، و بعضهم ربما يكتفى بمعلومات سطحية جدا سمعها هنا أو هناك.




بعض طلاب الدراسات العليا الذين ستوضع على أعتاقهم بعد قليل مسئولية التدريس الجامعى ، لا تجد عندهم رغبة مطلقا فى توسيع معارفهم و اطلاعهم و يريدون أن يلتزموا حرفيا بما يرضى المشرف على رسالتهم و يرون أن أى توسع لا قيمة له و تضييع للوقت. و قريب من هذا المعنى انتشار المذكرات بين أيدى طلاب الجامعات – خاصة الكليات النظرية – بحيث أصبح الرجوع إلى الكتب و المراجع من آثار الماضى.



و حتى فى العبادات المفروضة ، يريد أكثر الناس الآن أن يتعلمها فى دقائق من خلال ورقة صغيرة أو محاضرة عابرة ، و لا يقتنع أن أهمية الأمر تستوجب أن يوفر لها وقتا وجهدا.



لم أقصد استقصاء كل جوانب هذه الثقافة الفاسدة ، و لكن هذه فقط بعض جوانبها ، و الباب مفتوح للجميع لكشف عوارها و التنبيه على خطرها و ذلك من أجل أمرين :



1- أن ننتبه نحن لهذه المزالق فلا نقع فيها و نتخلص – نحن قبل غيرنا – منها.


2- تنبيه غيرنا بالأدب و التلطف و الحكمة عن ضرورة تغيير هذه الأنماط الجديدة الفاسدة فى حياتنا.

0 التعليقات

إرسال تعليق